فصل: توفي الشيخ الإمام العلامة قنبر بن محمد العجمي السيرامي الشافعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


وكانت غزة قد غلا بها الأسعار لقلة الأمطار وبلغتالويبة القمح مائة وعشرين درهمًا‏.‏

فعند ذلك جد السلطان الملك الناصر في حركة السفر والاستعداد للحرب‏.‏

وأما أمر الأمراء فإنه خرج جاليشهم من مدينة غزة إلى جهة الديار المصرية في يوم الأحد ثاني ذي الحجة‏.‏

ثم سار من الغد الأمير شيخ ويشبك وجكم ببقية عساكرهم واستنابوا به الأمير ألطنبغا العثماني‏.‏

ثم في سادسه قدم الخبر على جناح الطير من بلبيس بنزول الأمراء على قطيا فكثرت حركات العسكر بالقاهرة وخرجت مدورة السلطان إلى الريدا خارج القاهرة واختبط العسكر واضطرب لسرعة السفر‏.‏

ثم ركب السلطان من قلعة الجبل بأمرائه وعساكره في يوم السبت ثامن ذي الحجة من سنة سبع وثمانمائة وسار حتى نزل بالريدانية خارج القاهرة وبات بها وقد أقام من الأمراء بباب السلسلة بكتمر الركني رأس نوبة الأمراء وجماعة بالقاهرة‏.‏

وبينما السلطان بالريدانية ورد عليه الخبر بنزول الأمراء بالصالحية في يوم التروية وأخذوا ما كان بها من الإقامات السلطانية فرحل السلطان من الريدانية في يوم الأحد تاسعه ونزل العكرشة ثم سار منها ليلًا وأصبح ببلبيس وضحى بها وأقام عليها يومي الاثنين والثلاثاء‏.‏

ورحل من مدينة بلبيس بكرة نهار الأربعاء ونزل على منزلة السعيدية فأتاه كتب الأمراء الثلاثة وهم‏:‏ جكم وشيخ ويشبك بأن سبب حركتهم ما جرى بين الأمير يشبك وبين إينال باي بن قجماس وطلبوا منه أن يخرج إينال باي المذكور ودمرداش المحمدي نائب حلب من مصر وأن يعطي لكل من يشبك وجكم وشيخ ومن معهم بمصر والشام ما يليق بهم النيابات والإقطاعات لتخمد هذه الفتنة باستمرارهم على الطاعة وتحقن الدماء ويعمر بذلك ملك السلطان وإن لم يكن ذلك تلفت أرواح كثيرة وخربت بيوت عديدة‏.‏

وكانوا أرادوا هذه المكاتبة من الشام ولكن خشوا أن يظن بهم العجز فإنه ما منهم إلا من جعل الموت نصب عينيه فلم يلتفت السلطان إلى ذلك ولم يأمر بكتابة جواب لهم‏.‏

وكان ذلك مكيدة من الأمراء حتى كبسوا على السلطان في ليلة الخميس وهم في نحو ثلاثة آلاف فارس وأربعمائة تركماني من أصحاب قرايوسف‏.‏

وبينما السلطان على منزلة السعيدية ورد الخبر على الوالد من بعض أصحابه ممن هو صحبة الأمراء أن الأمراء اتفقوا على تبييت السلطان والكبس عليه في هذه الليلة فأعلم الوالد السلطان وحرضه على الركوب بعساكره من وقته فمال إليه السلطان‏.‏

فأخذ الأمير بيغوت وغيره يستبعد ذلك ولا زالوا بالسلطان حتى فتر عزمه عن وبينما هو في ذلك إذ ثارت غبرة عظيمة وهجة في الناس‏.‏

وقبل أن يسأل السلطان عن الخبر طرقه الأمراء على حين غفلة فركب السلطان في الليل بمن معه واقتتل الفريقان قتالًا شديدًا من بعد عشاء الآخرة إلى بعد نصف الليل جرح فيه جماعة كثيرة من الطائفتين وقتل الأمير صرق الظاهري صبرًا بين يدي الأمير شيخ المحمودي نائب الشام لأن السلطان كان ولاه عوضه نائب الشام وانهزم السلطان وركب وساق عائدًا على الهجن إلى جهة الديار المصرية ومعه سودون الطيار وسودون الأشقر وساقوا إلى أن وصلوا إلى القلعة‏.‏

وتفرقت العساكر السلطانية وانهزموا وتركوا أثقالهم وخيامهم وسائر أموالهم غنمها الشاميون‏.‏

ووقع في قبضة الأمراء من المصريين الخليفة والقضاة والأمير شاهين الأفرم والأمير خير بك نائب غزة ونحو ثلاثمائة مملوك من المماليك السلطانية وغيرهم‏.‏

وقدم المنهزمون من السلطانية إلى القاهرة في يوم الخميس ثالث عشر ذي الحجة‏.‏

ولم يحضر السلطان ولا الأمراء الكبار‏.‏

فكثر الإرجاف وماج الناس وانتهبت عدة حوانيت حتى قدم السلطان قريب العصر ومعه الأمراء وقد قاسى من العطش والتعب ما لا يوصف‏.‏

فسر الناس بقدومه وطلع إليه الأمراء والعساكر وباتوا تلك الليلة‏.‏

وأصبح السلطان يتهيأ للقاء الأمراء وقبض على يلبغا السالمي وسلمه لجمال الدين البيري الأستادار فعاقبه وصادره‏.‏

وشرع أمر فلما كان آخر نهار الأحد نزلت الأمراء بالريدانية خارج القاهرة‏.‏

ثم أصبحوا في بكرة نهار الاثنين ركبوا وزحفوا على القاهرة فأغلقت أبواب المدينة وتعطلت الأسواق عن المعايش‏.‏

ومشوا حتى وصلوا قريبًا من دار الضيافة بالقرب من قلعة الجبل فقاتلهم المماليك السلطانية من بكرة نهار الاثنين المذكور إلى بعد الظهر‏.‏

فلما أذن الظهر أقبل جماعة كثيرة من الأمراء إلى جهة السلطان طائعين‏:‏ منهم الأمير يلبغا الناصري وآسنباي أمير ميسرة الشام المعروف بالتركماني وسودون اليوسفي وإينال حطب وجمق فلما وقع ذلك اختل أمر الأمراء وعزم جماعة منهم على العود إلى البلاد الشامية فحمل ما خف من أثقاله وعاد وفعل ذلك جماعة كبيرة بعد أن أفرج شيخ عن الخليفة والقضاة وغيرهم‏.‏

فتسلل عند ذلك الأمير يشبك الشعباني الدوادار والأمير تمراز الناصري أمير سلاح والأمير جاركس القاسمي المصارع والأمير قطلوبغا الكركي في جماعة أخر واختفوا بالقاهرة وظواهرها‏.‏

فلما وقع ذلك ولى الأمير جكم والأمير شيخ والأمير طولو وقرايوسف في طائفة يسيرة وقصدوا البلاد الشامية فلم يتبعهم أحد من عسكر السلطان‏.‏

ثم نادى السلطان بالأمان لكل أحد فطلع إليه جماعة فقبض عليهم وقيدهم وبعث بهم إلى سجن الإسكندرية وخمدت الفتنة‏.‏

وأجلت هذه الواقعة عن إتلاف مال كثير من العسكرين ثم أخذ الملك الناصر في تمهيد أمور دولته وإصلاح الدولة والمفرد‏.‏

وقبض على الصاحب تاج الدين بن البقري وسلمه لجمال الدين الأستادار واستقر عوضه في الوزارة فخر الدين ماجد بن غراب‏.‏

وكان أخوه سعد الدين إبراهيم بن غراب مع العسكر الشامي فلما قدم معهم اختفى بالقاهرة ثم ترامى على الأمير إينال باي بن قجماس فجمع بينه وبين السلطان ليلًا ووعده بستين ألف دينار‏.‏

وأصبح يوم الأربعاء تاسع عشر ذي الحجة طلع سعد الدين بن غراب إلى القلعة فخلع عليه السلطان وجعله مشيرًا‏.‏

ثم في ثالث عشرينه خلع السلطان على الأمير نوروز الحافظي وكان ممن قدم مع العسكر باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن الأمير شيخ المحمودي وعلى بكتمر جلق باستقراره على نيابة صفد وعلى سلامش حاجب غزة بنيابة غزة‏.‏

وأما جكم وشيخ فإنهما قدما غزة في نحو خمسمائة فارس أكثرهم من التركمان أصحاب قرايوسف وقد غنموا شيئًا كثيرًا وتفرقت عساكر شيخ وتلفت أمواله وخيوله‏.‏

ومضى إلى دمشق فخرج إليه الأمير بكتمر جلق والأمير شيخ السليماني المسرطن نائب طرابلس فهرب منهما فتتبعاه إلى عقبة فيق فنجا بنفسه فلم يحركاه‏.‏

ودخل دمشق وهو في أسوأ حال فوجد السلطان أحمد بن أويس صاحب بغداد قد فر من دمشق إلى جهة بلاده في ليلة الأحد سادس عشر ذي الحجة وكان قد تأخر بدمشق ولم يتوجه إلى نحو الديار المصرية صحبة الأمراء‏.‏

ثم إن شيخًا أوقع الحوطة على بيوت الأمراء الذين خامروا عليه وتوجهوا إلى مصر وأخذ في إصلاح أمره ولم شعثه‏.‏

وأما جكم فإنه لما فارق حلب ثار بها عدة من أمرائها ورفعوا سنجق السلطان بقلعة حلب فاجتمع إليهم العسكر فحلفوا بعضهم لبعض على طاعة السلطان‏.‏

وقدم ابنا شهري الحاجب ونائب القلعة من عند التركمان البياضية إلى حلب وقام بتدبير أمور حلب الأمير يونس الحافظي‏.‏

وامتدت أيدي عرب العجل ابن نعير وتراكمين ابن صاحب الباز إلى معاملة حلب فقسموها ولم يدعوا لأحد من الأمراء والأجناد شيئًا كل ذلك قبل قدوم جكم إليها من مصر‏.‏

وأما السلطان فإنه رسم في أواخر ذي الحجة بانتقال الأمير علان اليحياوي نائب حماة إلى نيابة حلب عوضًا عن جكم وحمل إليه التقليد والتشريف الأمير إينال الخازندار واستقر الأمير دقماق المحمدي في نيابة حماة عوضًا عن علان المذكور واستقر الأمير بكتمر جلق نائب صفد في نيابة طرابلس عوضًا عن شيخ السليماني المسرطن وتوجه بتقليده الأمير جرباش العمري واستقر عوضه في نيابة صفد الأمير بكتمر الركني رأس نوبة الأمراء درجة إلى أسفل‏.‏

ثم في ثالث المحرم سنة ثمان وثمانمائة قدم مبشر الحاج وأخبر بأنه كان أشيع بمكة المشرفة قدوم ثم قدم رسل الأمير شيخ نائب الشام إلى السلطان بديار مصر وهم شهاب الدين أحمد بن حجي أحد خلفاء الحكم بدمشق والشريف ناصر الدين محمد بن علي نقيب الأشراف والشيخ المعتقد محمد بن قديدار والأمير يلبغا المنجكي ومعهم كتبه تتضمن الترقق والاعتذار عما وقع منه وتسأل استقراره على عادته في نيابة دمشق‏.‏

فلم يلتفت السلطان إلى قوله ومنع رسله من الاجتماع بأحد‏.‏

ثم في رابع عشرين المحرم سار الأمير نوروز الحافظي إلى نيابة دمشق وخرج الأمراء لوداعه ونزل بالريدانية ومعه مسفره الأمير برد بك الخازندار‏.‏

ثم وقعت الوحشة بين السلطان وبين الأمير إينال باي بن قجماس الأمير آخور فقبض السلطان في يوم الاثنين سادس صفر على الأمير يشبك بن أزدمر رأس نوبة النوب وعلى الأمير تمر وعلى الأمير سودون وهما من إخوة سودون طاز فاختفى الأمير إينال باي أمير آخور ومعه الأمير سودون الجلب وأحاط السلطان بدورهم ثم قيد الأمراء وأرسلهم إلى سجن الإسكندرية‏.‏

وأما إينال باي فإنه دار على جماعة من الأمراء ليركبوا معه فلم يؤهله أحد لذلك فاختفى إلى يوم الجمعة عاشره فظهر وطلع به الأتابك بيبرس إلى القلعة فكثر الكلام بين الأمراء حتى آل الأمر إلى مسك إينال باي وإرساله إلى ثغر دمياط بطالًا‏.‏

ثم في خامس عشرين صفر فرق السلطان إقطاعات الأمراء الممسوكين فأنعم بإقطاع إينال باي على الوالد وزاده إمرة طبلخاناه وأنعم بإقطاع الوالد على الأمير دمرداش المحمدي نائب حلب كان وبإقطاع دمرداش على الأمير أزبك الإبراهيمي وجميع هذه الإقطاعات تقادم ألوف لكن شيئًا أحسن من شيء في كثرة المغل‏.‏

وأنعم السلطان على الأمير بيبرس الصغير الدوادار بتقدمة ألف قبل أن تكمل لحيته وعلى الأمير بشباي الحاجب بتقدمة ألف وعلى الأمير علان بتقدمة ألف وعلى الأمير قراجا بإمرة عشرين وأنعم بطبلخانات سودون الجلب على الأمير إيتمش الشعباني‏.‏

ثم خلع على الأمير جرباش الشيخي رأس نوبة ثاني بآستقراره أمير آخورًا كبيرًا عوضًا عن إينال باي‏.‏

وأما الأمير شيخ فإنه توجه صحبة الأمير جكم وقرايوسف لحرب نعير‏.‏

ثم اختلفوا فمضى جكم إلى طرابلس وتوجه قرايوسف إلى جهة الشرق عائدًا إلى بلاده‏.‏

وعاد الأمير شيخ من البقاع ونزل سطح المزة ومعه خواصه فقط‏.‏

ثم توجه إلى الصبيبة هاربًا من نوروز الحافظي فدخل نوروز إلى دمشق في يوم الثلاثاء ثاني عشرين صفر من غير مدافع لضعف الأمير شيخ عن مقاومته وقتاله‏.‏

وأما السلطان فإنه خلع على الأمير بشباي الحاجب بآستقراره رأس نوبة النوب عوضًا عن يشبك بن أزدمر وخلع على الأمير أرسطاي باستقراره حاجب الحجاب بعد ثم في يوم الثلاثاء وقع بالديار المصرية فتنة وكثر الكلام بين الأمراء إلى أن اتفق جماعة من المماليك الجركسية وسألوا السلطان القبض على الوالد وعلى الأمير دمرداش المحمدي وعلى الأمير أرغون من بشبغا وجماعة أخر من كون السلطان اختص بهم وتزوج بكريمتي على كره من الوالد وكونه أيضًا أعرض عن الجراكسة وأمسك إينال باي فخافوا أن تقوى شوكة هؤلاء عليهم واتفقوا واجتمعوا على الأتابك بيبرس وتأخروا عن الخدمة السلطانية‏.‏

وكثر كلام القوم في ذلك إلى أن طلب السلطان الأمراء واستشارهم فيما يفعل فقال له دمرداش‏:‏ ‏"‏ المصلحة قتالهم وأنا كفء هؤلاء الجراكسة والسلطان لا يتحرك من مجلسه ‏"‏ فنهره الوالد وقال له ما معناه‏:‏ ‏"‏ تقاتل خشداشيتك‏!‏ كلنا مماليك السلطان ومماليك أبيه مهما شاء السلطان يفعل فينا وفيهم ‏"‏‏.‏

هذا وقد ظهر الملل على السلطان من كثرة الفتن ولحظ الوالد منه ذلك فإنه قال فيما بعد‏:‏ ‏"‏ سمعته يقول في ذلك اليوم‏:‏ وددت لو كنت ما كنت ولا أكون سلطانًا‏.‏

ثم أمر السلطان الوالد أن يختفي حتى ينظر السلطان في مصلحته وأمر دمرداش أيضًا بذلك وانفض المجلس من غير إبرام أمر‏.‏

ثم أصبح الناس يوم الأربعاء سابع شهر ربيع الأول من سنة ثمان المذكورة وقد ظهر الأمير يشبك الشعباني الدوادار والأمير تمراز الناصري أمير سلاح والأمير جاركس القاسمي وخبر ظهورهم أن الأتابك بيبرس ركب إلى السلطان وأخبره بمواضع الأمراء المذكورين ووافقه على مصالحة الجراكسة وإحضار الأمراء من اختفائهم والإفراج عن إينال باي وغيره فرضي السلطان بذلك وتقرر الحال على ذلك‏.‏

وطلع الأمراء المذكورون من الغد في يوم الخميس ثامن شهر ربيع الأول المذكور فخلع السلطان على الأمير سودون تلي المحمدي باستقراره أمير اخورًا كبيرًا بعد عزل الأمير جرباش الشيخي وعوده إلى إقطاعه إمرة طبلخاناه ووظيفته ثاني رأس نوبة‏.‏

ثم في عاشره طلع الأمير يشبك الدوادار والأمير تمراز الناصري أمير سلاح والأمير جاركس القاسمي المصارع وجماعة أخر إلى القلعة وقبلوا الأرض بين يدي السلطان فخلع عليهم خلع الرضا ونزل كل واحد إلى داره‏.‏

ثم في خامس عشرة قدم الأمير قطلوبغا الكركي وإينال حطب وسودون الحمزاوي ويلبغا الناصري وأسندمر الناصري وتمر من سجن الإسكندرية وهؤلاء الذين كان السلطان نادى لهم بالأمان بعد وقعة السعيدية فلما طلعوا له قبض عليهم وسجنهم بالإسكندرية وهم رفقة يشبك وشيخ وجكم‏.‏

ثم قدم الأمير إينال باي بن قجماس من ثغر دمياط ومعه تمان تمر الناصري‏.‏

ثم قدم الأمير ثم أمسك السلطان القاضي فتح الدين فتح الله كاتب السر وولى عوضه سعد الدين إبراهيم بن غراب وألزم فتح الدين بحمل ألف ألف درهم‏.‏

ثم ظهر الأمير دمرداش نائب حلب من اختفائه فخلع السلطان عليه بنيابة غزة فسار في يوم السبت رابع عشرينه‏.‏

وخلع السلطان أيضًا على يشبك بن أزدمر بنيابة ملطية فامتنع من ذلك فأكره حتى لبس الخلع ووكل به الأمير أرسطاي الحاجب والأمير محمد بن جلبان الحاجب حتى أخرجاه من فوره إلى ظاهر القاهرة‏.‏

ثم بعث السلطان إلى الأمير أزبك الإبراهيمي الظاهري المعروف بخاص خرجي - وكان تأخر عن طلوع الخدمة - بأن يستقر في نيابة طرسوس فأبى أن يقبل والتجأ إلى بيت الأمير إينال باي فاجتمع طائفة من المماليك ومضوا إلى يشبك بن أزدمر ورثوه في ليلة الجمعة ثالث عشرين شهر ربيع الأول وقد وصل قريبًا من سرياقوس وضربوا الحاجب المرسم عليه وصار العسكر فرقتين‏.‏

وأظهر المماليك الجراكسة الخلاف ووقفوا تحت القلعة يمنعون من يقصد الطلوع إلى السلطان وجلس الأتابك بيبرس بجماعة من الأمراء في بيته‏.‏

وصار السلطان بالقلعة وعنده عدة أمراء وتمادى الحال على ذلك يوم الخميس والجمعة والسبت والناس في قلق والقالة بينهم‏.‏

فلما كان يوم السبت نزل السلطان من القلعة إلى باب السلسلة وآجتمع عنده بعض الأمراء لإصلاح الأمر فلم يفد ذلك وباتوا على ما هم عليه وأصبحوا يوم الأحد خامس عشرينه وقد كثروا وطلبوا من السلطان الوالد وأرغون من بشبغا‏.‏

وكان الوالد قد ظهر من يوم أخرج دمرداش إلى نيابة غزة فلم يستجرىء أحد يتكلم في خروجه من القاهرة واستمر على إمرته فأبى الملك الناصر أن يرسله إليهم فقال الوالد‏:‏ ‏"‏ هذا أمر يطول ولا بد من النزول ‏"‏ فنزل إليهم ومعه أرغون وكلم الأمراء في سبب طلبهم إياه وخشن للأتابك بيبرس في القول فإنه كان مسفر الوالد لما ولي نيابة حلب في أيام الملك الظاهر برقوق فلم يتكلم بيبرس ولا غيره بكلمة واحدة وسكت الجميع‏.‏

فلما طال المجلس قال الوالد‏:‏ ‏"‏ ما تتكلمون‏!‏ ‏"‏ فعند ذلك تكلم شخص من الخاصكية الظاهرية يقال له قرمش الأعور - وهو الذي قطع رأسه في دولة الملك الأشرف برسباي من أجل جاني بك الصوفي حسبما يأتي ذكره - وقال قرمش‏:‏ ‏"‏ يا خوند المقصود أنك تخرج من الديار المصرية حتى تسكن هذه الفتنة ثم تعود بعد أيام أو يعطيك السلطان ما تختار من البلاد ‏"‏‏.‏

فقال الوالد‏:‏ ‏"‏ بسم الله حتى أشاور السلطان ثم أسافر ‏"‏ وخرج فلم يجرؤ أحد أن يقبضه ولا يرسم عليه وعاد إلى بيته ولم يطلع إلى السلطان‏.‏

وكان سكنه بالبيت الذي بباب الرميلة تجاه مصلاة المؤمني وأقام به يومه‏.‏

وتجهز وخرج في الليل في نحو مائة مملوك من خواصه فلم يقف له أحد على خبر وسار من البرية إلى القدس الشريف في دون الخمسة أيام ولم يجتز بقطيا خوفًا من تسليط العربان عليه‏.‏

وكان لما خرج من بيت بيبرس أرسل إليه السلطان يعلمه أنه أيضًا يريد يختفي ويترك السلطنة فلهذا جد الوالد في السير لئلا يخرج القوم في أثره ويقبضون عليه‏.‏

فلما كان وقت الظهر من يوم خروج الوالد من مصر وهو يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الأول فقد السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق من قلعة الجبل ولم يعرف له خبر‏.‏

وسبب تركه السلطنة أنه كان في يوم النوروز جلس السلطان مع جماعة من الأمراء والخاصكية من مماليك أبيه وشرب معهم حتى سكر ثم ألقى بنفسه إلى فسقية هناك فألقى الجماعة أنفسهم معه وقد غلب على السلطان السكر وصار يسبح معهم في الماء ويمازحهم وترك الوقار فجاء من خلفه الأمير أزبك الإبراهيمي المعروف بخاص خرجي وقيل غيره وأزبك الأشهر وأغمه في الماء مرارًا وهو يمرق من تحته كأنه يمازحه حتى قبض عليه وغرقه في الماء حتى كادت نفسه تزهق ففطن به بعض مماليك أبيه من الأروام ممن كان معهم أيضًا في الفسقية وخلصه منه وأفحش في سب أزبك المذكور وأراد قتله فمنعه السلطان من ذلك وقال‏:‏ ‏"‏ كان يلعب معي ‏"‏ وأسرها في نفسه‏.‏

ثم طلع السلطان من الفسقية وذهب كل واحد إلى حال سبيله‏.‏

فذكر السلطان بعد ذلك للوالد ما وقع له مع أزبك المذكور وأمره أن يكتم ذلك لوقته فأخذ الوالد يزول عنه ويهونه عليه‏.‏

ثم عرف السلطان جماعة من أكابر أمراء الجراكسة بذلك فلم يلتفتوا لقوله وقالوا‏:‏ لم يرد بذلك إلا مباسطة السلطان فعند ذلك تحقق السلطان أنهم يريدون قتله وكان ذلك بعد خروج الأمراء من السجن وظهور يشبك ورفقته وقد كثروا وعظم جمعهم فلم يجد الملك الناصر بدًا من أن يفوز بنفسه ويترك لهم ملك مصر‏.‏

ولما أراد النزول من القلعة ليختفي بالقاهرة قام ومعه بكتمر مملوك القاضي سعد الدين بن غراب ويوسف بن قطلوبك صهر ابن غراب ونزلوا من باب السر الذي يلي القرافة وساروا على بركة الحبش ونزلوا منها في مركب وتركوا الخيل وتغيبوا نهارهم كله في البحر حتى دخل الليل فساروا بالمركب إلى بيت سعد الدين بن غراب وهو فيما بين الخليج وبركة الفيل بالقرب من قنطرة طقزدمر فلم يجدوه في داره فمروا على أقدامهم حتى باتوا في بيت بالقاهرة لبعض معارف بكتمر‏.‏

ثم بعثوا لابن غراب بمجيء السلطان إلى عنده فهيأ له سعد الدين مكانًا من داره وأنزله فيه وأما الأمراء فإنه لما بلغهم ذهاب السلطان الملك الناصر في يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الأول من سنة ثمان وثمانمائة بادروا بالطلوع إلى القلعة وهم طائفتان‏:‏ الطائفة التي كانت خالفت السلطان الملك الناصر وركبوا عليه وقاتلوه أيامًا ثم توجهوا إلى الشام وعادوا إلى الديار المصرية وصحبتهم جكم وشيخ وقرايوسف وواقعوه بالسعيدية وكسروه ثم اختفوا ورأسهم يشبك الشعباني الدوادار بمن كان معه من الأمراء وقد مر ذكرهم في عدة مواضع‏.‏

والطائفة الأخرى كبيرهم بيبرس الأتابك وسودون المارداني الدوادار الكبير وإينال باي وغيرهم‏.‏

فلما طلع الجميع إلى القلعة منعهم الأمير سودون تلي المحمدي الأمير آخور الكبير من الطلوع إلى القلعة فصاروا يتضرعون إليه من نصف النهار إلى بعد غروب الشمس حتى مكنهم من العبور من باب السلسلة فطلعوا ومعهم الخليفة المتوكل على الله والقضاة الأربعة وتكلموا فيمن ينصبوه سلطانًا حتى اتفقوا على سلطنة الأمير عبد العزيز بن الملك الظاهر برقوق فإنه ولي عهد أخيه في السلطنة حسبما قرره والده الملك الظاهر برقوق قبل وفاته‏.‏

فطلبوه من الدور السلطانية فمنعته أمه خوند قنق باي أولًا ثم دفعته لهم فأحضروه وتم أمره وتسلطن حسبما نذكره في محله من ترجمته‏.‏

وخلع الملك الناصر فرج من السلطنة وسنه نحو سبع عشرة سنة تخمينًا فكانت مدة تحكم الملك الناصر على مصر من يوم مات أبوهالملك الظاهر برقوق إلى يوم خلع ست سنين وخمسة أشهر وأحد عشر يومًا والله أعلم‏.‏

انتهت ترجمة الملك الناصر الأولى‏.‏

السنة الأولى من سلطنة الناصر فرج ابن الظاهر برقوق - الأولى على مصر وهي سنة إحدى وثمانمائة على أن والده الملك الظاهر برقوق حكم منها إلى نصف شوال ثم حكم في باقيها الملك الناصر هذا‏.‏

فيها توفي قاضي القضاة عماد الدين أحمد بن عيسى بن سليم بن جميل الأزرقي العامري الكركي الشافعي قاضي قضاة الكرك ثم الديار المصرية بالقدس في سادس شهر ربيع الأول وكان فاضلًا رئيسًا نبيلًا وهو أحد من قام مع الملك الظاهر برقوق عند خروجه من سجن الكرك وخدمه في أيام حبسه بها - وقد تقدم ذكر ذلك كله في ترجمة الملك الظاهر برقوق ولما عاد الملك الظاهر إلى ملكه عرف له ذلك وطلبه إلى الديار المصرية وولاه قضاء الشافعية بالديار المصرية وولى أخاه علاء الدين كاتب سر الكرك كتابة سر مصر ثم صرف القاضي عماد الدين هذا عن القضاء برغبة منه وولي مشيخة الصلاحية بالقدس الشريف إلى أن مات به‏.‏

وتوفي الأمير سيف الدين أرغون شاه بن عبد الله الإبراهيمي الظاهري - برقوق - نائب حلب بها في ليلة خامس عشرين صفر وكان من أخصاء مماليك الملك الظاهر برقوق رقاه إلى أن ولاه نيابة صفد ثم طرابلس ثم نقله إلى نيابة حلب بعد عزل الوالد عنها في سنة ئمانمائة فدام بها إلى أن مات‏.‏

وكان أميرًا عاقلًا ساكتًا مشكور السيرة وتولى بعده نيابة حلب الأمير آقبغا الجمالي الأطروش‏.‏

وتوفي الأمير زين الدين أمير حاج بن مغلطاي أحد الأمراء بالديار المصرية في شهر ربيع الأول وكان له رياسة ووجاهة‏.‏

و

 توفي الشيخ الإمام العلامة قنبر بن محمد العجمي السيرامي الشافعي

العالم المشهور بالقاهرة في شعبان وكان قدومه إليها من بلاد العجم في حدود سنة سبع وثمانين وسبعمائة ونزل بجامع الأزهر‏.‏

وكان متفننًا في عدة فنون من العلوم درس واشتغل وانتفع به الطلبة وكان تاركًا للدنيا متقشفًا في ملبسه قد قنع بجبة من لبد وطاقية من لبد صيفًا وشتاء وقال العيني بعدما أثنى على علمه‏:‏ وكان يميل إلى سماع المغاني واللهو والرقص وكان يتهم بالمسح على وتوفي الأمير سيف الدين بكلمش بن عبد الله العلائي أمير سلاح كان بطالًا بالقدس في صفر وأصله من مماليك الأمير طيبغا الحسني الناصري المعروف بالطويل وترقى بعده حتى صار من جملة الأمراء ثم أنعم عليه الملك الظاهر برقوق بإمرة طبلخاناة قبل - خلعه من الملك ثم جعله في سلطنته الثانية أمير آخورًا كبيرًا مدة سنين ثم نقله - بعد أن أمسكه وحبسه - إلى إمرة سلاح فدام على ذلك سنين إلى أن قبض عليه في تاسع عشرين المحرم من سنة ثمانمائة وقبض معه أيضًا على الأمير الكبير كمشبغا الحموي وحملا إلى سجن الإسكندرية وتولى الأمير آخورية بعده الأمير تنبك الظاهري فدام بكلمش هذا في السجن إلى أن أفرج عنه وبعثه إلى القدس بطالًا فدام به إلى أن مات وكان أميرًا شجاعًا مقدامًا ذا كلمة نافذة في الدولة إلا أنه كان فيه كبر وجبروت وخلق سيىء مع كرم وإنعام‏.‏

وكان سبب القبض عليه أنه ضرب موقعه القاضي صفي الدين الدميري وصادره فشكا صفي الدين حاله إلى السلطان في أبيات مدح السلطان فيها وذم بكلمش المذكور من جملتها قوله‏:‏ يأكلني ذئب وأنت ليث فسمع بذلك بكلمش فطلبه وضربه ثانيًا بالمقارع وكلما ضربه رش عليه الملح فكان كلما صاح يقول له بكلمش‏:‏ قل لليث يخلصك من الذئب‏.‏

فأقام بعد ذلك مدة ومات من تلك وفيها توفي الأمير حسام الدين حسن الكجكني نائب الكرك ثم أحد مقدمي الألوف بالديار المصرية‏.‏

وهو الذي أخرج الملك الظاهر برقوق من سجن الكرك ولما أرسل إليه منطاش الشهاب البريدي بقتله فقام حسام الدين هذا بنصرته فلما عاد الملك الظاهر إلى ملكه كافأه وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بديار مصر وصار من أعظم أمرائه إلى أن مات رحمه الله‏.‏

وكان عارفًا عاقلًا سيوسًا وعنده فضيلة وفهم جيد ومذاكرة‏.‏

وتوفي الشيخ المعتقد خلف بن حسن بن حسين الطوخي في ثاني عشرين شهر ربيع الأول وكان للناس فيه اعتقاد ومحبة‏.‏

وتوفي الشيخ المعتقد الصالح خليل بن عثمان بن عبد الرحمن بن عبد الجليل المغربي ويعرف بابن المشيب في سادس عشرين شهر ربيع الأول‏.‏

وتوفي الشيخ الإمام العامل شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي بكر ابن محمد العبادي الحنفي الفقيه المشهور في ليلة الأحد تاسع عشر شهر ربيع الآخر وكان من فضلاء الحنفية أفتى ودرس في عدة فنون‏.‏

وتوفي الشيخ الإمام الأديب البليغ علاء الدين أبو الحسن علي بن أيبك الدمشقي الشاعر المشهور في ثالث عشر ربيع الأول بدمشق‏.‏

وكان بارعًا في النظم وله شعر رائق ذكرنا منه قطعة جيدة في ترجمته في تاريخنا ‏"‏ المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي ‏"‏‏.‏

ومولده في سنة ثمان قم زف بنت الكرم ثم استجلها بكرًا لها في الكأس رأس أشمط فالطير شاد والنسيم مشبب والغصن يرقص والغمام ينقط وله أيضًا‏:‏ كأن الراح لما راح يسعى بها في الراح مياس القوام سنا المريخ في كف الثريا يحايدنا به بدر التمام وله الموشح المشهور الذي أوله‏:‏ يا من حكى خده شقائق وماله في البهاء شقيق تركتني بالدموع شارق لما بدا خدك الشريق سللت من ناظريك صارم للفتك يا شادن الصريم وسرت يوم الفراق سالم وقد تركت الحشا سليم متى أراك الغداة قادم يا من حديثي به قديم شيبت من أجلك المفارق وسرت مع جملة الفريق ما بين حاد حدا وسائق حملي بمن ساقه وسيق وتوفي العارف بالله شمس الدين محمد بن أحمد بن علي المعروف بابن نجم الصوفي بمكة المشرفة في صفر بعد أن جاور بها عدة سنين‏.‏